فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ووقف الكسائي في هذه القراءة على ياء وابتدأ باسجدوا وهو وقف اختيار، وفي البحر الذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء والمنادى محذوف لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء وانحذف فاعله لحذفه فلو حذفنا المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء وحذف متعلقه وهو المنادي وإذا لم نحذفه كان دليلًا على العامل فيه وهو جملة النداء وليس حرف الندا حرف جواب كنعم وبلى ولا وأجل فيجوز حذف الجملة بعده كما يجوز حذفها بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجملة المحذوفة.
فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به {إِلا} التي للتنبيه وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد.
وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله:
فأصبحن لا يسألنني عن بما به

والمتفقي اللفظ العاملين أيضًا في قوله:
فلا والله لا يلفي لما بي ** ولا للما بهم أبدًا دواء

وجاز ذلك وإن عدوه ضرورة أو قليلًا فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزًا وليس يا في قوله:
يا لعنة الله والأقوام كلهم

حرف نداء عندي بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدا وليس مما حذف فيه المنادى لما ذكرناه انتهى، وللبحث فيه مجال.
وعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام استئنافًا من كلام الهدهد أما خطابًا لقوم سليمان عليه السلام للحث على عبادة الله تعالى أو لقوم بلقيس لتنزيلهم منزلة المخاطبين.
ويحتمل أن يكون استئنافًا من جهة الله عز وجل أو من سليمان عليه السلام كما قيل وهو حينئذ بتقدير القول.
ولعل الأظهر احتمال كونه استئنافًا من جهته عز وجل وخاطب سبحانه به هذه الأمة.
والجملة معترضة ويوقف على هذه القراءة على {يَهْتَدُونَ} استحسانًا ويوجب ذلك زيادة عدة آيات هذه السورة على ما قالوه فيها عند بعض، وقيل: لا يوجبها فإن الآيات توقيفية ليس مدارها على الوقف وعدمه فتأمل.
والفرق بين القراءتين معنى أن في الآية على الأولى ذمًا على ترك السجود وفيها على الثانية أمرًا بالسجود.
وأيًا ما كان فالسجود واجب عند قراءة الآية، وزعم الزجاج وجوبه على القراءة الثانية وهو مخالف لما صرح به الفقهاء ولذا قال الزمخشري إنه غير مرجوع إليه.
وقرأ الأعمش: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} على التحضيض وإسناد الفعل إلى ضمير الغائبين.
وفي قراءة أبي {إِلا} على العرض وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين، وفي حرف عبد الله {إِلا هَلُ} بألا الاستفتاحية وهل الاستفهامية.
وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين قاله ابن عطية.
وفي الكشاف ما فيه مخالفة ما له والعالم بحقيقة الحال هو الله عز وجل.
{الَّذِى يُخْرِجُ الخبء في السموات والأرض} أي يظهر الشيء المخبوء فيهما كائنًا ما كان فالخبء مصدر أريد به اسم المفعول.
وفسره بعضهم هنا بالمطر والنبات، وروى ذلك عن ابن زيد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب أنه فسره بالماء والأولى التعميم كما روى ذلك جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
{وَفِى السموات} متعلق بالخبء، وعن الفراء أن {فِى} بمعنى من فالجار والمجرور على هذا متعلق بيخرج والظاهر ما تقدم.
واختيار هذا الوصف لما أنه أوفق بالقصة حيث تضمنت ما هو أشبه شيء بإخراج الخبء وهو إظهار أمر بلقيس وما يتعلق به.
وعلى هذا القياس اختيار ما ذكر بعد من صفاته عز وجل، وقيل: إن تخصيص هذا الوصف بالذكر لما أن الهدهد أرسخ في معرفته والإحاطة بأحكامه بمشاهدة آثارها التي من جملتها ما أودعه الله تعالى في نفسه من القدرة على معرفة الماء تحت الأرض.
وأنت تعلم أن كون الهدهد أودع فيه القدرة على ما ذكر مما لم يجيء فيه خبر يعول عليه، وأيضًا التعليل المذكور لا يتسنى على قراءة ابن عباس والستة الذين معه {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} بالتخفيف إذا جعل الكلام استئنافًا من جهته عز وجل أو من جهة سليمان عليه السلام.
وقرأ أبي وعيسى {الخب} بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة.
وحكى ذلك سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد وقرأ عكرمة بألف بدل الهمزة فلزم فتح ما قبلها وهي قراءة عبد الله ومالك بن دينار وخرجت على لغة من يقول في الوقف هذا الخبو ومررت بالخبي ورأيت الخبا وأجرى الوصل مجرى الوقف.
وأجاز الكوفيون أن يقال في المرأة والكمأه المراة والكماة بإبدال الهمزة ألفًا وفتح ما قبلها وذكر أن هذا الإبدال لغة وجوز أن يكون {يُخْرِجُ الخبء} من ذلك ومنعه الزمخشري مدعيًا أن ذلك لغة ضعيفة مسترذلة.
وعلل بأن الهمزة إذا سكن ما قبلها فطريق تخفيفها الحذف لا القلب كما يقال في الكمء كمه.
وتعقبه في الكشف فقال: تخريجه على الوقف فيه ضعفان لأن الوقف على ذلك الوجه ليس من لغة الفصحاء وأجراء الوصل مجرى الوقف فيما لا يكثر استعماله كذلك.
وأما تلك اللغة فعن الكوفيين أنها قياس. انتهى.
وزعم أبو حاتم أن الخبا بالألف لا يجوز أصلًا وهو من قصور العلم.
قال المبرد: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه.
وأشير بعطف قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} على {يَخْرُجُ} إلى أنه تعالى يخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخبايا لما أن المراد يظهر ما تخفونه من الأحوال فيجازيكم بها وذكر ما تعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي كذا قيل.
ويشعر كلام بعضهم بأنه أشير بما تقدم إلى كمال قدرته تعالى وبهذا إلى كمال علمه عز وجل وأنه استوى فيه الباطن والظاهر.
وقدم {مَا تُخْفُونَ} لذلك مع مناسبته لما قبله من الخبء، وقدم وصفه تعالى بإخراج الخبء من السموات لأنه أشد ملاءمة للمقام، والخطاب على ما قيل أما للناس أو لقوم سليمان أو لقوم بلقيس وفي الكلام التفات وقرأ الحرميان والجمهور {مَا يخافون وَمَا يُعْلِنُونَ} بياء الغيبة، وفي الكشاف عن أبي أنه قرأ: {ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون}.
{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم}.
في معنى التعليل لوصفه عز وجل بكمال القدرة وكمال العلم.
و{العظام} بالجر صفة العرش وهو نهاية الأجرام فلا جرم فوقه، وفي الآثار من وصف عظمه ما يبهر العقول ويكفي ذلك أن الكرسي الذي نطق الكتاب العزيز بأنه وسع السموات والأرض بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، وهو عند الفلاسفة محدد الجهات وذهبوا إلى أنه جسم كرى خال عن الكواكب محيط بسائر الأفلاك محرك لها قسرًا من المشرق إلى المغرب ولا يكاد يعلم مقدار ثخنه إلا الله تعالى، وفي الأخبار الصحيحة ما يأبى بظاهره بعض ذلك.
وأيًا ما كان فبين عظمه وعظم عرش بلقيس بون عظيم.
وقرأ ابن محيصن وجماعة {العظيم} بالرفع فاحتمل أن يكون صفة للعرش مقطوعة بتقدير هو فتستوي القراءتان معنى.
واحتمل أن يكون صفة للرب. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20)}.
التفسير:
وما يكاد سليمان يخرج من هذا الموقف الذي وقفه مع النملة، حتى يلقاه موقف آخر، مع طائر، وديع لطيف، أقرب إلى النملة في لطفها، وحسن مدخلها للأمور التي تعالجها، وهو الهدهد.
وكأن سليمان قد نسى هذا الموقف الذي كان فيه مع جماعة النمل منذ قليل، وزايلته تلك المشاعر التي وقعت في نفسه هناك، وها هو ذا يلبس سلطان الجلال، ويمسك بصولجان الملك، ويضرب بسيفه! {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ}.
الهدهد، هذا الطائر الوديع المسكين، يتخلّف عن هذا الحشد، ولا يحضر هذا الحفل، فيتوعّده، صاحب السلطان بأشدّ العذاب والنقمة! {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ}!! أما للهدهد عذر يمكن أن يقوم لتخلفه هذا، ويدفع عنه هذا العذاب؟
ألا يجوز أن يكون مريضا؟ ألا يصح أن يكون قد وقع في شباك صائد؟ ألا يعرض للهدهد ما يعرض للناس من أمور تعطل إرادتهم، أو تدفع بهم إلى غير ما يريدون؟ ألا سأل سليمان عن الهدهد أولا، وطلب إلى بعض جنده أن يأتوه بالخبر اليقين عنه؟ ألا اطمأن إلى سلامته قبل أن يسأل عن تأخره عن أخذ مكانه في هذا الحشد؟ وماذا يغنى الهدهد في هذا الجمع العظيم؟ وماذا يجدى أو يضير إذا هو حضر أو تخلف، وبين يدى سليمان من الحشود والقوى مالا حصر له؟.
إنه سلطة السلطان، وناموس الملك، الطاعة والولاء، لحساب الطاعة والولاء، ولسلطان الهيبة والجلال..!
وفي قول سليمان: {ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ}- هو علم من علم سليمان الذي آتاه اللّه، فهو حين ينظر فلا يرى الهدهد، يتهم نفسه أولا، ويتشكك في أن تكون حواسه قد خدعته: {مالى لا أرى الهدهد} ولم يقل: أين الهدهد؟ ولم يقل: إن الهدهد غائب!.. وهذا هو شأن أصحاب العلم، إذا التمسوا حقيقة من الحقائق، فلم يجدوها بين أيديهم، تشككوا في أسلوب تفكيرهم الذي لم يصل بهم إلى الحقيقة، ثم أعادوا البحث والنظر، حتى يجدوا ما يطلبون، أما إذا التمس المرء الحقيقة ثم لم يجدها، ثم كان ذلك مدعاة له إلى إنكارها، فذلك ليس من أسلوب العلماء، ولا من طرق تحصيل العلم.
فسليمان، إذ لم ير الهدهد، وقف موقف الشك. حتى ينجلى الموقف.
إنه لم يره، وقد يكون موجودا، وقد يكون غائبا! ثم استبان له بعد هذا، أن الهدهد غائب!.. ومن هنا كان هذا الوعيد بالعقاب الأليم له! ويطلع الهدهد على سليمان بما لم يكن يحتسب، ويهجم عليه، وهو الأعزل الضعيف، بسلطان أقوى من سلطانه، وجيش أعز وأقوى من جيشه، وعلم أكثر وأشمل من علمه.
{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}!! لقد انقلبت الآية، وانعكس الوضع. وها هو ذا الهدهد الضعيف الأعزل، الذي تنتظر هذه الحشود الحاشدة من الجن والإنس والطير، مصيره، ومصرعه، بين مشفق، وشامت، ولاه- هذا الهدهد، يحاكم سليمان، وينتقص قدرته، ويتهمه بالقصور عن أن يرى ما حوله، وأن يدير هذه القوى التي بين يديه الدعوة إلى اللّه، وهداية الضالين من عباده، لا في هذه المظاهر الاستعراضية، التي لا ثمرة لها.
لقد حاكم، هذا المخلوق الضعيف الأعزل، ملك الملوك في عصره.
حاكمه، ووضعه موضع الاتهام، وهو في أبهة ملكه، وعلى أعين الملأ من جنده، من الجن والإنس والطير!! {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}! فلم يكن هذا الطائر الضعيف الصغير، مجرد مكتشف، وعالم، بما لم يعلم به سليمان وحسب، بل إنه كان داعية إلى اللّه، وإلى الإيمان به، فهو ينكر على المشركين شركهم، ويسفه أحلامهم، ويحقر آلهتهم وما يعبدون من دون اللّه!.